السلام عليكم
تكلمنا في الأجزاء السابقة عن حياته العلمية والشخصية
وفي هذا الجزء سنتكلم عن مرضه ووفاته ورثـــــأوه
من طبيعة الشيخ رحمه الله أنه كان جلداً صبوراً لا يشتكي ولا يتأوه مع ما مر به من أمراض شديدة في أوقات مراحل عمره، ومع ذلك لم تثنيه عما هو فيه من الجد والاجتهاد ومن الدعوة إلى الله والمثابرة على ذلك حتى إنه في مرضه الشديد أنجز كثيراً من الأعمال الموكلة به.
فمرض وفاته رحمه الله بدأ منذ عام 1419ـ في شهر رمضان حيث كان يشعر بألم في البطن، فاشتد به المرض، فشكلت لجنة طبية بأمر خادم الحرمين الشريفين للنظر في حالته، وعرض عليه السفر للعلاج في الخارج فرفض فأحضر له أطباء من أمريكا وبلجيكا، فلما حضروا أوصوا بكي المري، فخف الألم قليلاً، ثم عاوده بعد شهرين وهو في الرياض، فدخل المستشفى ثم خرج منه بعد فترة لاستقرار حالته، ثم أصبحت حالته تتدنى حتى شهر ذي القعدة فنصحه الأطباء بالبقاء في المستشفى ولكن كان قلبه معلقاً بالحج.
وبعد إلحاح شديد من ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، ترك الحج ووكل نائبه الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ ليقوم مقامه بالحج، ثم قام في تاريخ 22/12/1419هـ بأداء العمرة وبقي في مكة حتى نهاية ذي الحجة، ثم انتقل إلى مقره الصيفي بالطائف، فبدأت صحته بالتدني، ومع ذلك كانت همته وعزيمته ونشاطه وعمله، ومزاجه وتفكيره، وذاكرته ودروسه ومواعظه على ما هي عليه قبل مرضه، وفي يوم الخميس 20/1/1420هـ أشتد به المرض فنقل إلى المستشفى العسكري بالهداء في محافظة الطائف، ومع هذا كانت المعاملات تقرأ عليه والمستفتون والزوار يتوافدون عليه من كل مكان، وهو يستقبلهم بتهلل وفرح وسعة بال، واستمر على هذه الحال إلى يوم الثلاثاء 25/1/1420هـ فخرج من المستشفى فاستقبل الناس في بيته وجلس لهم بعد المغرب ليلة وفاته فقرئت عليه المعاملات، ورد على الفتاوى المباشرة والهاتفية وقبل الفجر من يوم الخميس الموافق 22/1/1420هـ يقول ابنه أحمد: صلي الشيخ ما شاء أن يصلي في تلك الليلة، فاضطجع ونام، وبعد ساعة جلس في فراشه، فالتفت يميناً وشمالاً؛ فتبسم ثم اضطجع، وبعد ذلك ارتفعت نفسه وحشرجت، فنقلناه إلى مستشفى الملك فيصل بالطائف وهو يردد: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وفي صباح الخميس الموافق 27/1/1420هـ لفظ أنفاسه وهو في طريقه إلى مستشفى الملك فيصل بالطائف، ثم نقل إلى ثلاجة القوات المسلحة في الهداء حتى جاء وقت تغسيله وذلك في صباح يوم الجمعة، فنقل جثمانه إلى منزله بمكة المكرمة فغسل، وصلى عليه أهل بيته يتقدمهم فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ مفتى عام المملكة العربية السعودية، ثم صلى عليه في المسجد الحرام بعد صلاة الجمعة وذلك بأمر من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود .
وقد أعلن الديوان الملكي خبر وفاته يوم الخميس الذي مات فيه ومكان الصلاة عليه ووقتها، مع أمر جميع المسلمين في مساجد المملكة بإقامة صلاة الغائب علي الشيخ يوم الجمعة الموافق 28/1/1420هـ فتوافدت الجموع الحاشدة إلى مكة المكرمة لحضور الصلاة عليه، يتقدمهم ملك المملكة العربية السعودية الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود وولي عهده الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، والنائب الثاني الأمير سلطان بن عبدالعزيز، ووزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز، وأمير منطقة الرياض الأمير سلمان بن عبدالعزيز، وجمع كبير من الأمراء والوزراء وأصحاب الفضيلة المشايخ وكبار المسئولين في الدولة، مع أعداد غفيرة من المواطنين والمحبين للشيخ وكل هذه الجموع حضرت لأن المصاب عظيم والفاجعة بموته كبيرة، والرزية به عظيمة، وأم المصلين إمام المسجد الحرام فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله السبيل، حيث تحدث في خطبته عن فضل العلم والعلماء وذكر بعض مآثر الفقيد، وعزى الأمة به، وصبر الناس، وبعد صلاة الجمعة قدمت الجنازة فعلا النحيب والبكاء والدعاء للشيخ، فما كادت الجنازة تصل إلى المكان الذي هو أقرب للإمام إلا بشق الأنفس لكثرة الزحام ولقد شهدها آلاف مؤلفة من المسلمين حيث سارت في موكب مهيب وسط الجموع الغفيرة إلى مقبرة العدل بمكة المكرمة يتقدمهم فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله وكان ذلك اليوم يوماُ مشهوداً للجميع فرحم الله الشيخ رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجعله في الفردوس الأعلى، وحشره في زمرة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين .
رُثي الشيخ بمراثي كثيرة شعراً ونثراً، وامتلأت الصحف والمجلات والدوريات والوسائل السمعية والبصرية بذلك، كما رثي من فوق منابر الجوامع في أغلب خطب الجمعية وكذلك في الندوات والمحاضرات والأمسيات الأدبية وغيرها.
وهذه علامة واضحة على مكانة الشيخ العظيمة في النفوس والتي غرسها بالحب والإخلاص، والتواضع ولين الجانب، فقد تأثر بفقده الصديق والمخالف والقريب والبعيد، والصغير والكبير، فكتب الكثير منهم عن الشيخ وفاءً لحقه ونشراً لفضله وذكرا لمحاسنه، وترحماً عليه فأول من رثي سماحته رحمه الله خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز ملك المملكة العربية السعودية وذلك عند ترؤسه مجلس الوزراء، حيث عبر عن عميق حزنه وألمه لوفاته خسارة فادحة للأمة الإسلامية التي طالما استفادت بعلمه وحكمته .
فأرسل خطاب تعزية لأبناء الشيخ قال فيه: لقد فقدنا بوفاة والدكم إنساناً من أعز الناس بالنسبة لنا ومن أصدق الناس معنا، ومن أحرص الناس على نصحنا والدعوة إلى الخير والنصح للناس وتوجيههم ... ألخ .
وممن رثى الشيخ رحمه الله أغلب أفراد الأسرة المالكة، ورؤساء الجمعيات الإسلامية في كل من إستراليا ونيوزلندا وأمريكا وغيرها من بلدان العالم، وأغلب أصحاب الفضيلة العلماء والوزراء والدعاة، والأُدباء والسفراء ومدراء الجامعات والأكاديميون والمحبون له.
وهذه بعض النماذج لما قيل في رثاء الشيخ:
قال صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن فهد بن عبدالعزيز وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء ورئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء:
" لقد رزئت أُمة الإسلام في أنحاء الدنيا بخطب فادح ومصاب جلل نقصت به الأرض من أطرافها، وثُلم به جدار الدين والملة .. ذلكم هو فراق إمام أهل السنة والجماعة، وحيد عصره، وعلاّمة زمانه سماحة الوالد الشيخ: عبدالعزيز بن باز، عالم الأمة وداعية العصر، فلن تنساه الأجيال على تعاقبها، وسيظل بإذن الله حياً بعلمه وعمله وجهاده ودعوته" .
وقال مفتي عام المملكة العربية السعودية سماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشخ في رثاء الشيخ:
"على المسلمين جميعاً الرضاء بقضاء الله والدعاء لفقيدهم بالمغفرة والرحمة فلا شك أن المصاب عظيم، لكن نرجو من الله أن يعوض المسلمين خيراً"
وقال الشيخ الدكتور عبدالله التركي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي:
" من فضل الله عز وجل أنه قد وهب سماحة والدنا وشيخنا العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز من الصفات الحسنة والخلال الحميدة والشمائل الكريمة الشئ الكثير فهو ـ رحمه الله ــ كان في مقدمة علماء الشريعة في المملكة العربية السعودية، بل وعلى مستوى العالم ... وقد بارك الله في علمه، فانتفع به خلق كثبر، كما بارك الله في وقته وجهوده وجميع أموره، جزاه الله كل خير عنا وعن الإسلام والمسلمين".
* أما المراثي الشعرية فكثيرة:
قصيدة للشيخ الدكتور سعود الشريم إمام وخطيب المسجد الحرام؛ قال فيها:
جل المصاب وزاد همي الخبر حل المشيب بنا والهم والسهر
شل القلوب أسى والبين مثلمة والأرض مظلمة يجتاحها قتر
يمضي الزمان على هم أقلبه لو صب في جبل لأصدع الحجر
تجري السنون ولا شهر نسائله مضى محرمها وقد بدا صفر
أيامها دهر وليلها سنة لم يجيني طرب فيها ولا سمر
عفا الإمام ولم تخفى مآثره عبدالعزير وهل يخفى لنا القمر؟!
شيخ العلوم أب الأسياخ مجتهد فذ أريب نجيب وصفه درر
قطب الحديث وطود يا أخا ثقة طب القلوب له قدر ومعتبر
وقصيدة للشاعر الدكتور عبدالرحمن العشماوي . قال منها:
خفقان قلب الشعر ، أم خفقاني أم أنه لهب من الأحزان
(الشيخ مات) عبارة ما خلتها إلا كصاعقة على الوجدان
هو قلعة العلم التي بنيت على ثقة بعون الخالق المنان
ما (ابن باز) للقصائد أن ترى حزن القلوب وأدمع الأجفان
(الشيخ مات) عليه أندى رحمة وأجل مغفرة من الرحمن
وصلى الله وسلم على نبيه محمد.